نهاية التبعية: فرضية التحالفات المنافسة كخيار استراتيجي لتحرر الشرق الأوسط من الهيمنة الأمريكية" بقلم لمين مساسط

 





"نهاية التبعية: فرضية التحالفات المنافسة كخيار استراتيجي لتحرر الشرق الأوسط من الهيمنة الأمريكية"


في ظل التصاعد المتواصل للصراعات الجيوسياسية، وتفكك مسارات الدبلوماسية التقليدية، يتجدد الحديث عن الخروج من التبعية الأمريكية باعتباره ضرورة وجودية لدول الشرق الأوسط، لا مجرد مناورة سياسية ظرفية. إذ تُطرح فرضية جديدة، مفادها أن السبيل إلى إعادة ملامح السيادة والتحكم في القرار الوطني لدول المنطقة يكمن في بناء تحالفات متينة مع قوى دولية منافسة فعليًا للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وعلى رأسها الصين وروسيا واليابان وحتى دول ناشئة مثل البرازيل والهند. هذه الفرضية ليست مجرد طموح سياسي، بل تعبير عن حاجة ملحّة لفك العزلة المفروضة والهيمنة الاقتصادية الغربية التي ما انفكت تُفرغ المنطقة من قدرتها على النمو الذاتي والتوازن الاستراتيجي.
التحليل العلمي لمثل هذه الفرضية يبدأ أولًا بإعادة تعريف مفهوم التبعية، ليس فقط كارتباط اقتصادي أو سياسي، بل كبنية هيكلية تُدار من الخارج، تُبقي القرار المحلي رهين موافقة المؤسسات الغربية ومصالحها المتقلبة. من هذا المنطلق، لا يمكن فهم العلاقة بين دول الشرق الأوسط وأمريكا والاتحاد الأوروبي إلا باعتبارها علاقة غير متكافئة، تقوم على تأمين موارد الطاقة، احتواء النزاعات دون حلها، فرض شروط اقتصادية عبر أدوات مثل صندوق النقد الدولي، وتغذية أنظمة بيروقراطية تابعة تفتقر إلى القرار السيادي الحقيقي. هذه البنية، وإن بدت مستقرة ظاهريًا، هي مصدر الهشاشة الدائمة.
أما السؤال الجوهري الذي تطرحه الفرضية فهو: هل يمكن التحرر من هذه التبعية دون الدخول في صدام مباشر أو انهيار اقتصادي شامل؟ الإجابة تكمن في بُنية التحالفات الجديدة، والتي لا تقوم على مبدأ "الولاء الأيديولوجي" كما هو الحال مع الغرب، بل على مبدأ "المصالح المتبادلة طويلة الأمد". روسيا، مثلًا، تقدم نموذجًا لتحالف سيادي قائم على احترام الحدود الوطنية والتعاون العسكري والتكنولوجي دون فرض قيم سياسية معينة. الصين، عبر مشروعها الطموح "الحزام والطريق"، تعرض شراكة اقتصادية طويلة الأمد دون تدخل سياسي مباشر، بعكس المؤسسات المالية الغربية التي تشترط الخصخصة وإعادة هيكلة القطاع العام. أما اليابان، رغم تحالفها مع أمريكا، فهي تقدم نموذجًا معرفيًا وتكنولوجيًا يعتمد على الإنتاج لا على الاستغلال.
الفرضية إذن تقوم على تحويل موقع الشرق الأوسط من "منطقة نفوذ" إلى "نقطة ارتكاز" في لعبة التوازن العالمي. ولكي يتحقق هذا التحوّل، يجب أن يتوفر شرطان أساسيان: استقلال القرار الاستراتيجي المحلي، وبنية اقتصادية مرنة قادرة على امتصاص الصدمات الناتجة عن تقلب التحالفات. بناء على هذا، لا يكون التحالف مع روسيا أو الصين مجرد مناورة ظرفية، بل مشروع تحوّل هيكلي طويل الأمد، يشمل تحديث البنى التحتية، تنويع مصادر الطاقة، نقل التكنولوجيا، تطوير التعليم والبحث العلمي، وربط اقتصادات المنطقة بأسواق بديلة عن السوق الأوروبية والأمريكية.
من الناحية الاقتصادية، تقوم هذه الفرضية على مبدأ التنويع الاستراتيجي في مصادر التمويل والاستثمار، بما يحد من هيمنة الدولار والمؤسسات المالية الغربية. على سبيل المثال، يمكن تمويل المشاريع الاستراتيجية الكبرى مثل السكك الحديدية والطاقة المتجددة من خلال البنوك الصينية أو الروسية أو عبر بنوك التنمية التابعة لتجمع "بريكس"، التي تقدم بديلًا حقيقيًا لصندوق النقد والبنك الدولي. هذا التنويع لا يقلل فقط من المخاطر المالية، بل يسمح أيضًا بمرونة أكبر في تنفيذ المشاريع دون خضوع للمعايير الغربية المتشددة. وهو ما يعيد تعريف معنى "السيادة الاقتصادية"، ليس كشعار بل كإستراتيجية عمل.
سياسيًا، يشترط نجاح هذه الفرضية بناء خطاب دبلوماسي مستقل، يُعرّف التحالفات ليس باعتبارها "استبدال تبعية بأخرى"، بل باعتبارها "توسيعًا لمجال الخيارات". وهذا يعني التخلي عن الخطاب التقليدي الذي يقيس العلاقات الدولية بمنطق "إما مع الغرب أو ضده"، نحو منطق جديد يعتبر كل تحالف فرصة تفاوضية متبادلة، لا اصطفافًا عقائديًا. بمعنى آخر، تقوم الفرضية على فكرة أن التعدد في التحالفات لا يعني الانقسام، بل الاستقلال، وأن بناء علاقات قوية مع الصين وروسيا لا يتناقض بالضرورة مع وجود علاقات طبيعية مع الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، طالما أن هذه العلاقات لا تضعف السيادة الوطنية.
التحول الفعلي نحو هذه الفرضية يحتاج إلى بناء رأي عام مؤسسي قادر على فهم تعقيدات الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي. وهو ما يتطلب تغييرًا في بنية التعليم، الإعلام، والمؤسسات البحثية. ففي غياب وعي شعبي عميق بهذه الرهانات، قد تُفهم التحالفات الجديدة على أنها "عمالة جديدة" أو "اصطفاف أعمى"، وهو ما يُفشل المشروع من داخله. لذا، فإن الاستثمار في الوعي السياسي والاقتصادي هو جزء لا يتجزأ من نجاح التحول، لأن المعركة في نهاية المطاف ليست مع الغرب فقط، بل مع البُنى الذهنية التي كرست لعقود أن "الانفتاح لا يكون إلا عبر بوابة الغرب".
من جهة أخرى، تُفترض هذه الفرضية نجاحًا تدريجيًا لا فورياً. أي أن بناء التحالفات البديلة يجب أن يتم عبر مراحل، تبدأ من القطاعات غير الحساسة مثل الزراعة والبنى التحتية، مرورًا بالتكنولوجيا والطاقة، وصولًا إلى الأمن والدفاع. هذا التدرّج يُجنب الدول الانهيار المفاجئ في حال الرد الغربي عبر العقوبات أو الضغوط المالية. كما يُتيح بناء الثقة المتبادلة مع الحلفاء الجدد، واختبار قدراتهم على دعم المشاريع طويلة الأمد دون شروط مُجحفة. وهو ما يعزز فكرة أن التحوّل الحقيقي لا يكون عبر التصريحات، بل عبر تراكم الإنجازات.
أمام هذه الرؤية، تبرز عقبة مركزية: الموقف الأمريكي من أي محاولة استقلال شرق أوسطية. فمن الناحية الواقعية، لا يمكن تجاهل أن الولايات المتحدة تملك أدوات ضغط هائلة، من العقوبات إلى التدخل السياسي والعسكري. لكن الفرضية تقوم على تقليل فعالية هذه الأدوات عبر خلق واقع جديد يُربك الحسابات الأمريكية. فعندما تصبح المنطقة مرتبطة اقتصاديًا بالصين، ومتعاونة عسكريًا مع روسيا، ومستقلة إعلاميًا وتقنيًا، فإن تكلفة أي تدخل أمريكي تصبح مرتفعة جدًا سياسيًا واقتصاديًا، وهو ما يُفرغ أدوات السيطرة من فعاليتها تدريجيًا. هنا، تتحقق فرضية الردع غير العسكري، عبر خلق "توازن مصالح" يقيّد الهيمنة.
تظهر أهمية هذه الفرضية في ضوء التغيرات البنيوية في النظام الدولي، حيث لم تعد أمريكا القوة الوحيدة القادرة على صياغة النظام العالمي. فالصين تسعى لبناء نظام متعدد العملات، وروسيا تُعيد تموضعها كلاعب أمني في عدة مناطق، واليابان تتحرّك باتجاه دور أكثر فاعلية في الاقتصاد العالمي. وهذا يفتح المجال أمام دول الشرق الأوسط للتموقع كفاعلين مستقلين، بدلًا من كونهم ساحات نفوذ فقط. إذا نجحت الفرضية، فإننا أمام لحظة تاريخية تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية بالكامل، وتمنح للمنطقة دورًا عالميًا لم تعرفه منذ عقود.
في الختام، لا يمكن اعتبار فرضية بناء تحالفات بديلة مجرد خيار من بين عدة خيارات، بل ضرورة استراتيجية تُفرضها التحولات الكبرى في ميزان القوى، وفشل النماذج الغربية في تقديم تنمية حقيقية دون شروط. هي خطة بعيدة المدى، تتطلب نَفَسًا طويلاً، وإدارة ذكية، وقبل ذلك، إرادة سياسية مستقلة لا تُهددها المصلحة الفردية أو الخوف من الانهيار. بهذا فقط، يمكن للشرق الأوسط أن يكتب تاريخه من جديد، لا كمنطقة نزاع، بل ككتلة سيادية لها قرارها، وحلفاؤها، وقوتها الذاتية.


الكاتب /لمين مساسط 



تعليقات

المشاركات الشائعة