لماذا تعد الحرية الفكرية مفتاح الإبداع والتقدم الحضاري؟
هذه الصورة تجسد مفهوم الحرية الفكرية، حيث يظهر شخص يتحرر من قيود غير مرئية ترمز إلى القيود الاجتماعية، بينما يضيء عقله بنور ساطع يمثل التنوير والإبداع. في الخلفية، يتلاشى مشهد مدينة قاتمة إلى أفق مشرق، دلالة على التقدم والمعرفة. تحيط بالشخص كتب طائرة وأقفاص مفتوحة وحواجز محطمة، مما يعزز فكرة التحرر من القمع الفكري.
في عالم تهيمن عليه المادة والنفوذ، يُعتقد على نطاق واسع أن أعظم ما يمكن منحه للإنسان هو الثروة أو السلطة. غير أن هذا التصور، رغم هيمنته في الخطاب الاجتماعي والاقتصادي، لا يعكس جوهر التطور الإنساني ولا يفسر أسباب النهضة الحضارية عبر التاريخ. إن ما يجعل الإنسان كائنًا متميزًا وفاعلًا في مجتمعه ليس امتلاكه للموارد المادية فحسب، بل مقدار الحرية الفكرية التي يتمتع بها، إذ إن الحرية هي الحاضنة الأساسية للعقل النقدي، وهي الشرط الضروري لظهور الإبداع العلمي والفلسفي والفني.
يؤكد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن الاستقلالية الفكرية هي جوهر التنوير، وأن المجتمعات التي لا تتيح لأفرادها فرصة ممارسة النقد العقلاني تظل محاصرة في مرحلة القصور العقلي، حيث يُفرض على الإنسان أن يتبنى أفكارًا لم يخترها بنفسه. هذا يتقاطع مع رؤية المفكر جون ستيوارت ميل الذي يرى أن الحرية ليست مجرد حق فردي، بل هي شرط أساسي لتطور المعرفة، إذ لا يمكن للعلم والفلسفة أن يزدهرا في بيئات قمعية تخضع العقل لمنظومات جامدة.
عندما يتم إخضاع الإنسان لقوالب فكرية موروثة، فإنه يفقد القدرة على تطوير تصوراته الخاصة عن العالم، مما يجعله مجرد امتداد لماضٍ لم يساهم في تشكيله. فالحرية ليست مجرد مساحة تعبير، بل قدرة على تفكيك المسلمات وإعادة بناء المفاهيم وفقًا للمعطيات المعرفية المتجددة. وهنا تتجلى خطورة الأنظمة السلطوية، سواء السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، التي تسعى إلى تثبيت الأفراد داخل منظومات فكرية مغلقة تمنعهم من مساءلة الواقع.
عبر التاريخ، نجد أن أعظم النهضات الفكرية والعلمية ارتبطت بفترات ازدهار الحريات. فعلى سبيل المثال، شهد العصر الذهبي الإسلامي ازدهارًا علميًا غير مسبوق عندما توافرت بيئة نسبية من التسامح الفكري، حيث تألّق الفلاسفة والعلماء مثل الفارابي وابن رشد والخوارزمي وابن الهيثم، الذين استفادوا من التلاقح الثقافي بين الحضارات المختلفة. وعلى النقيض، أدت محاكم التفتيش في أوروبا خلال العصور الوسطى إلى عرقلة التقدم العلمي، حيث تم اضطهاد العلماء مثل غاليليو لمجرد أنهم تحدوا التصورات الكنسية السائدة.
وفي العصر الحديث، تؤكد الأبحاث في علم الاجتماع السياسي أن المجتمعات الديمقراطية ذات المستويات العالية من حرية التعبير والإبداع تحقق معدلات نمو معرفي وتكنولوجي أسرع من نظيراتها السلطوية. فالتجربة الأوروبية بعد عصر النهضة توضح كيف أن الحرية الفكرية كانت المحرك الأساسي للثورة العلمية والصناعية، بينما ظل العالم العربي، الذي يعاني من قيود فكرية واجتماعية، بعيدًا عن هذا التطور رغم توفر الثروات المادية.
إن قمع الحرية الفكرية لا يؤدي فقط إلى تراجع الإبداع، بل يخلق أيضًا أفرادًا عاجزين عن الفعل الحضاري، حيث يتحول الإنسان إلى كائن مستهلك للأفكار بدلًا من أن يكون منتجًا لها. فالباحثون في علم النفس الاجتماعي يؤكدون أن الحرية الفكرية تعزز الشعور بالكفاءة الذاتية، وهو عنصر أساسي في تحقيق الإنتاجية الفردية والمجتمعية. على النقيض، فإن المجتمعات التي تعيش في بيئات قمعية تُنتج أفرادًا يعانون مما يسميه عالم النفس مارتن سليغمان "العجز المكتسب"، حيث يفقد الفرد القدرة على التغيير بسبب تعرضه المستمر للقيود والقمع.
هذا الفارق يظهر جليًا عند مقارنة المجتمعات التي تؤمن بالحرية مع تلك التي تمارس القمع. فالفرد الأوروبي، الذي ينشأ في بيئة تتيح له حرية التفكير والتعبير، يكون أكثر قدرة على الإبداع والابتكار من الفرد العربي، الذي يعاني من قيود اجتماعية وثقافية تحرمه من هذه الفرص. لذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لمجتمع يقيد حرية أفراده أن ينتظر منهم أن يكونوا عناصر منتجة وفعالة؟
إن الحرية ليست مجرد ترف فكري أو خيار سياسي، بل هي فطرة إنسانية وضرورة حضارية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية لا يمكنه أن يحقق ذاته، لأنه يظل محاصرًا داخل منظومات تقليدية لا تمنحه فرصة الاستقلال الفكري. ومن هنا، فإن التمرد على هذه القيود ليس مجرد نزعة شخصية، بل هو تعبير عن طبيعة الإنسان السليم، الذي يسعى إلى التحرر من العوائق التي تمنعه من تحقيق إمكاناته الكاملة.
في النهاية، إذا كان الهدف هو بناء مجتمع قادر على الإبداع والتطور، فإن الخطوة الأولى يجب أن تكون في تحرير العقل من القيود المفروضة عليه، ومنح الإنسان الحق في التفكير والتعبير والنقد دون خوف. فكما قال سبينوزا: "الحرية هي الحياة نفسها، وما دونها مجرد وجود بيولوجي بلا معنى."
الكاتب لمين مساسط
تعليقات
إرسال تعليق