الجزائر وترويض الكاميرا العالمية: كيف يصنع الفن قوتها الناعمة؟. لمين مساسط
الجزائر وترويض الكاميرا العالمية: كيف يصنع الفن قوتها الناعمة؟
في زمنٍ تحوّلت فيه الحروب من ساحات المعارك إلى ساحات التأثير، لم يعد السلاح وحده ما يُحدد مكانة الدول، بل أصبحت أدوات الثقافة والفن والإعلام في مقدمة الجبهات. القوة الناعمة لم تعد مجرد مصطلح دبلوماسي، بل أضحت ركيزة في صناعة النفوذ والاستقرار، وهنا تبرز الجزائر كلاعب قادر — إن أرادت — على توظيف هذه القوة بأسلوب عصري وعميق، يعكس هويتها ويعيد تشكيل صورتها.
الفن، بمختلف تجلياته، من الموسيقى إلى المسرح إلى السينما، لم يعد نشاطًا ترفيهيًا منفصلًا عن السياسة. في الواقع، كثير من الدول تستخدم رموزها الثقافية والفنية كجسر نحو العالم. فعندما تكرم دولة مثل الجزائر فنانًا عالميًا من أصول جزائرية مثل "دي جي سنيك"، فهي لا تقوم بحركة شعبوية، بل تخوض — وإن بغير إعلان — خطوة ضمن إستراتيجية القوة الناعمة، سواء كانت مدروسة بعمق أو لا تزال في بداياتها. استقبال الرئيس عبد المجيد تبون لـ"دي جي سنيك" لم يكن عبثيًا، ولا يمكن النظر إليه كحدث عابر. هذا الفنان العالمي تتجاوز مشاهداته المليار، أي أنه محط أنظار شركات عالمية وملايين الشباب عبر العالم. عندما يُظهر هذا الفنان تعلقه بالجزائر، ويقوم بتصوير مشاهد موسيقية في شوارعها أو جبالها أو أحيائها الشعبية، فإن ذلك يُحدث اختراقًا في الصورة النمطية السلبية التي طالما لحقت بالجزائر باعتبارها بلدًا منغلقًا، أو خاضعًا لخطابات العنف والتخلف.
الخطوة المهمة تكمن في تحويل هذه اللحظات الرمزية إلى إستراتيجية واضحة المعالم: كيف نستخدم رموزنا الفنية والثقافية كرسائل دبلوماسية، تربط بين الداخل والخارج؟ كيف نُعيد توجيه الفن نحو خدمة صورة البلاد؟ هنا، لا نتحدث عن دعاية سطحية أو شعارات رسمية، بل عن مشاريع فنية ذات جودة عالية، قادرة على فرض نفسها عالميًا. فالكاتب الذي يحصل على جائزة دولية، أو المغني الذي يتصدر ترتيب المنصات، أو الرسام الذي تُعرض لوحاته في باريس، لا يُمثل ذاته فقط، بل يحمل جنسيته على كتفيه، ويضع وطنه في عيون الكاميرا. تجربة الشاعر محمود درويش مثلًا، جعلت من القضية الفلسطينية أكثر إنسانية وتأثيرًا. أعمال الروائي نجيب محفوظ قدمت مصر إلى العالم كحاضرة ثقافية فريدة. فرقة BTS الكورية لم تُعرف فقط بأغانيها بل أصبحت واجهة لكوريا الجنوبية. وكل هؤلاء لم يفعلوا ذلك بالعنف أو القوة الصلبة، بل بالفن والإبداع والجاذبية.
لكن هذا التوجه لن يتحقق في الجزائر ما لم نُراجع ثقافتنا الشعبية المنغلقة تجاه الفن. كم من فنان جاد سُخر منه؟ كم من مشروع ثقافي تم قمعه بعبارات مثل: "ما هذا التافه؟" أو "هل سنأكل بالغناء؟". هذه الرؤية ليست بريئة، بل هي امتداد لعقود من الشك والعداء تجاه الجمال، تجاه الخيال، تجاه الحلم. علينا أن نُدرك أن الفن ليس أداة تسلية، بل هو وسيلة تربوية وسياسية ونفسية واجتماعية. المسرح الجزائري في الستينات والسبعينات لم يكن ترفًا، بل كان منبرًا توعويًا. الأغنية الملتزمة في فترة التسعينات كانت ملاذًا للوجدان العام. والآن، في عصر الصورة والمنصات، يمكن لمقطع فيديو مدته دقيقة أن يُحدث تأثيرًا دوليًا أكبر من ألف بيان سياسي.
من هنا، يجب على الجزائر أن تُعيد التفكير في منظومتها الثقافية والفنية، ليس فقط على مستوى الإنتاج، بل على مستوى الترويج والتقدير والتكريم. من الضروري أن يتم دعم الفنانين الذين يحملون رؤية وعمقًا، أن تُفتح أمامهم منصات الإنتاج والعرض، وأن يُحتفى بإنجازاتهم في الإعلام الوطني والدولي. يجب أيضًا أن يُنظر إلى هؤلاء كمكوّن رئيسي في السياسة العامة للدولة، تمامًا كما يُنظر للمهندس أو الطبيب أو الرياضي. ولا ننسى أيضًا أهمية إدماج الفن في المدارس، وفي مناهج التفكير النقدي، وفي التكوين المهني. وحدها هذه الرؤية الشاملة يمكن أن تجعل من الفن قوة ناعمة مؤثرة، تربط بين الأجيال وتفتح الجزائر على العالم.
الجزائر اليوم أمام فرصة تاريخية لتجاوز عقدة "التهميش الثقافي"، والخروج من عباءة الرؤية المتعالية تجاه الفن. عندما يُصبح الفن أداة تفكير وتغيير، لا أداة لهو فقط، سنُدرك أن أعظم الإنجازات لا تُبنى فقط على مصانع السلاح، بل على المسارح، ودور النشر، وعيون الأطفال وهم يشاهدون فيلمًا يُلهمهم. بهذا المعنى، فإن تكريم فنان مثل دي جي سنيك ليس نهاية الحدث، بل يجب أن يكون بداية رؤية. رؤية تُدرك أن القوة الناعمة ليست شعارًا، بل سياسة ثقافية رصينة، وأن الجزائر قادرة، بما تملكه من تاريخ ومواهب، أن تتحول من متلقٍ للصور إلى صانعة للرموز. وهذا ما نحتاجه فعلاً.
الكاتب/ لمين مساسط
تعليقات
إرسال تعليق