"الندّ للندّ: عندما تتكلم الصواريخ وتُصمت الدبلوماسية" بقلم لمين مساسط

 

"الندّ للندّ: عندما تتكلم الصواريخ وتُصمت الدبلوماسية"

منذ عقود، ظلّ الصراع بين إيران وإسرائيل يتخذ أشكالًا مختلفة، تتراوح بين حرب التصريحات وحرب الظل، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا جذريًا في طبيعة هذا الصراع، جعله أكثر علنية واحتدامًا، وأقرب إلى الانفجار الكبير الذي لا يعرف أحد حدوده ولا تداعياته. في جوهر هذا الاشتباك تقف الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب أساسي، ترسم خطوطه وتدير تفاعلاته، بل وتؤطر أدواته بما يخدم مشروعها الكوني في فرض الهيمنة والاستمرار في السيطرة على الشرق الأوسط. ليست إسرائيل سوى أداة مركزية في هذه الهندسة الحربية، تؤدي أدوارًا متقدمة في التصدي للطموح الإيراني، خاصة في ما يتعلق بالمشروع النووي الذي ترى فيه واشنطن خطرًا استراتيجيًا على تفوّقها في المنطقة. إنّ ما يجري ليس صراعًا بين دولتين متجاورتين، بل هو صراع إرادات بين مشروع توسعي مدعوم من الغرب، وآخر مقاوم مدفوع بقناعة وجودية بأن البقاء لا يتحقق إلا بالندية والردع.
الولايات المتحدة لم تكن يومًا حيادية في هذه المعركة. بل منذ سنوات طويلة وهي تدير سياسة "الحرب بالوكالة"، عبر تحريك أدواتها السياسية والعسكرية، وعلى رأسها إسرائيل، لتقوم بما لا تستطيع واشنطن أن تفعله مباشرة. وقد رأينا هذا في عمليات الاغتيال، كما حدث مع محسن فخري زاده، وفي الهجمات السيبرانية التي استهدفت منشآت نطنز، وفي الضربات الجوية التي طالت مراكز عسكرية وبحثية داخل العمق الإيراني. هذه التحركات لم تكن انعكاسًا لرغبة إسرائيل فقط، بل ترجمة لتوجيه استراتيجي أمريكي هدفه الأول تعطيل أي قدرة محتملة لدى إيران لتغيير ميزان القوى. وهنا تكمن خطورة المرحلة. لأن العقيدة الإسرائيلية لا تقوم فقط على الردع، بل على المبادأة، على أساس أن الأمن لا يُضمن إلا من خلال توجيه الضربات الاستباقية. هذا ما يجعلها تندفع في اتجاهات محفوفة بالمخاطر، كالدخول في حرب استنزاف مفتوحة في قطاع غزة، أو محاولة تطويق حزب الله في الجنوب اللبناني، أو اليوم، إقحام نفسها في صراع مباشر مع دولة مثل إيران، ليست دولة عادية، بل تملك منظومات متطورة، وحلفاء أقوياء، وعقيدة قتالية تعتبر المواجهة إثباتًا للكرامة، لا مجرد أداة دفاع.
في قلب هذا الاشتباك تقع معضلة المشروع النووي الإيراني، الذي رغم كل الضغوط لم يتوقف. وعلى العكس، كلما اشتدت الهجمات، كلما ارتفعت وتيرة التخصيب وتوسعت الأنشطة. وهذا ما يشير إلى فشل الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية في شل إرادة طهران. بل أكثر من ذلك، فإن العقوبات والخنق الاقتصادي لم يمنع النظام الإيراني من تطوير أدواته الإقليمية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بل نجح في بناء عمق دفاعي طويل المدى يجعل من ضربه أمرًا مكلفًا جدًا. ولهذا نجد أن أي هجوم إسرائيلي لم يعد يمرّ من دون رد، سواء كان مباشرًا أو عبر فصائل متحالفة. هذه الحقيقة الجديدة تزعج إسرائيل، التي لم تعتد على مواجهة ردود من دول تملك الجرأة على الردّ. وهذا ما يغيّر من طبيعة الصراع، لأن التوازن لم يعد في يد طرف واحد، بل أصبح توازنًا هشًا يرتكز على إمكانية الانفجار في أي لحظة.
لكن التطور الأهم في هذا المشهد هو ما بدأ يظهر مؤخرًا من دعم غير معلن أو شبه معلن من قوى كبرى لإيران، وعلى رأسها دول تملك ترسانات نووية مثل روسيا والصين. هذا لا يعني تحالفًا صريحًا، لكن يعني تحالف مصالح، تفرضه المعادلات الدولية الجديدة، خاصة في ظل رغبة تلك القوى في كسر الأحادية الأمريكية. وبالتالي، فإن أي تصعيد تجاه إيران لم يعد يمرّ دون حسابات دقيقة، لأن الأمر قد يُفهم على أنه استهداف لمشاريع تلك القوى، مما يُعقد المعادلة أكثر. فإذا كانت إسرائيل اليوم تملك القنبلة النووية وتلوّح بها ضمنيًا، فإن إيران تملك ورقة الردع غير المباشر عبر حلفائها، وتملك إمكانية الدعم النووي المستقبلي، وهو ما يجعل الصراع يتحول شيئًا فشيئًا إلى معركة "ندّ للندّ". وهذا ما يفسّر التصعيد المتسارع، والخوف الدائم من "الخطأ الكبير" الذي قد يشعل كل شيء دفعة واحدة.
من الناحية الزمنية، فإن الضغط الإسرائيلي لا يخدم استراتيجيتها على المدى الطويل، لأن إيران تراهن على الزمن وتشتغل على بناء قوتها بتدرج بطيء لكنه عميق. فبينما تُجهد إسرائيل نفسها في حروب متزامنة ومتعددة، تستنزف بها قدراتها الأمنية والسياسية، تحرص إيران على توزيع جهدها، وتفويض بعض المهام لحلفائها، مع تركيزها على تطوير الذات علميًا وتقنيًا. وهذا التباين في الرؤية سيُحدد مستقبل الصراع. لأن الطرف الذي يملك القدرة على ضبط النفس والسيطرة على التوقيت هو من سيفرض قواعد اللعبة في النهاية. لكن المقلق أن الكل يتحرك الآن بلا حدود واضحة، والخطر أن الصراع قد يخرج عن سيطرة اللاعبين المباشرين.
وحين نتأمل نوعية الأهداف التي ضربتها إسرائيل في العمق الإيراني، سنلاحظ أنها كانت تختار منشآت ترتبط غالبًا بتخصيب اليورانيوم، أو مراكز أبحاث متقدمة، وهو ما يكشف نية واضحة: شلّ المشروع، لا احتواءه. هذا الخيار العدواني، رغم خطورته، لم يُحقق أهدافه حتى الآن، بل على العكس، زاد من حدة التوتر ورفع من منسوب المواجهة، وأخرج إيران من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم الإعلامي والسياسي وحتى العسكري. فمتى يُدرك العالم أن التصعيد المتكرر لن يُنتج سلامًا، وأن الضغط المفرط سيولّد انفجارًا؟ خاصة حين تُعطى الضربات غطاء دوليًا من قوى عظمى، يُفهم منها أن ميزان العدالة الدولية بات أعوجًا بشكل خطير.
لا أحد يمكنه الجزم بأن هذه الحرب ستتوقف قريبًا. لأن أهدافها ليست آنية، بل وجودية. إسرائيل تريد إجهاض ما تعتبره تهديدًا لبقائها، وإيران تعتبر الرد واجبًا من أجل إثبات الذات. وفي ظل هذا التشابك العنيف، يصبح من الصعب رسم نهاية واضحة للصراع. كل ما يمكن قوله هو أن المنطقة دخلت مرحلة دقيقة، وأن هامش المناورة بدأ يضيق. ومع مرور الوقت، سيزداد الضغط الإيراني، ليس فقط عسكريًا، بل دبلوماسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. لأنه حين تكتسب الشعوب مناعة ضد الخوف، يصبح من الصعب كسرها بالترهيب، وهذا ما تُدركه طهران جيدًا. فالصراع تجاوز مسألة قنبلة نووية أو منشأة تخصيب، وتحول إلى معركة رمزية من أجل تحديد من يملك الحق في رسم ملامح الشرق الأوسط.
ربما لن تكون هناك نهاية قريبة، وربما تنفجر حرب لا يريدها أحد لكنها قد تفرض نفسها على الجميع. كل ما نعرفه الآن أن التوتر يتصاعد، وأن الأسئلة باتت أكثر من الإجابات. والسؤال الحقيقي اليوم ليس: من سيربح؟ بل: من سيتحمل الكلفة؟ وهل يملك العالم ما يكفي من الحكمة ليمنع نفسه من الوقوع في هاوية لا رجعة منها؟ الوقت كفيل بالإجابة، لكن التاريخ لا ينتظر كثيرًا قبل أن يُسجل الكارثة.


الكاتب لمين مساسط


تعليقات

المشاركات الشائعة