بين فكر الشباب وكهلنة القرار: هل يمكن للاقتصاد الجزائري أن ينهض بعقلية الأمس؟

 



"فكر الشباب والكهلنة: بين الجمود والتحول الاقتصادي".

في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى التي يعرفها العالم، تقف الجزائر – كغيرها من دول الجنوب – أمام تحدٍ مصيري يفرض إعادة النظر في البنية المؤسسية، وفي النماذج الذهنية المسيطرة على مفاصل القرار داخل مؤسساتها. من بين أبرز مظاهر هذا التحدي ما يمكن تسميته بـ"كهلنة المكاتب الحيوية"؛ أي تغليب فئة الكهول على حساب فئة الشباب في المناصب الاستراتيجية ومراكز اتخاذ القرار، وهي ظاهرة لها انعكاسات خطيرة على ديناميكية الاقتصاد الوطني ومستوى تفاعله مع التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم.
إن هذه الكهلنة تكرّس عقليات تقليدية في التسيير، حيث يغلب على الكهول أسلوبٌ اقتصادي كلاسيكي يعتمد على مفاهيم البيع والشراء، تفريغ المخزون، إدارة التسويق في أطر بيروقراطية مغلقة، دون مواكبة الأدوات الرقمية أو استيعاب الثورة التكنولوجية التي تتقدم بسرعة خارقة. هذا النمط البطيء في الأداء يجعل من المؤسسات عائقًا أمام الوصول إلى الريادة التي نتسابق إليها في خضم زحمة اقتصادية رهيبة يقودها الذكاء الاصطناعي، وتحركها خوارزميات لا ترحم ولا تنتظر.
على النقيض من ذلك، تبرز إمكانيات الشباب كفرصة تاريخية لإنقاذ الاقتصاد الوطني من حالة الركود الذهني والمؤسسي، ذلك أن الشباب اليوم – بفضل اطلاعهم وانفتاحهم على تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل العالمية – صاروا يحملون مشاريع اقتصادية جديدة تقوم على فكر التداول، القراءة الجيدة للأسواق، والتحليل الفوري للأحداث الاقتصادية والمالية. هم لا يتحركون من منطق البيع والشراء الآني، بل من منطلق استراتيجي يجعلهم أقرب إلى الفلاسفة الاقتصاديين منهم إلى التجار التقليديين.
لقد خلق الشباب نموذجًا اقتصاديًا يقوم على الفعالية، يعتمد فيه على تقنيات التداول الحديثة التي تتطلب تركيزًا فكريًا عميقًا، وربطًا لحظيًا بين الأحداث السياسية والمالية، وتوقعًا للمؤشرات وفق تحليل شامل. فالشاب الذي يستثمر في عالم التداول مثلاً، لا يتابع أسعار البورصة فحسب، بل يقرأ تحليلات السوق، يتابع تقارير البنوك المركزية، يرصد الحرب في أوكرانيا وتوترات الشرق الأوسط، ويستنتج انعكاساتها على النفط والغاز والذهب والعملات الرقمية. هذه القدرة على الربط بين السياسة والاقتصاد، بين الحرب والأرباح، هي التي تصنع الإنسان الاقتصادي الجديد.
هذا الإنسان الجديد ليس مجرد شاب يعمل من بيته، بل عقلية تنبئ بتحوّل كامل في رؤية الإنسان الجزائري إلى الاقتصاد، إلى الدولة، وإلى العالم. إنها عقلية تتجاوز فكرة أن الشباب لا يملكون الخبرة، لأن الخبرة لم تعد شرطًا بقدر ما صارت القدرة على التعلم السريع، والتكيف اللحظي، والاشتغال الذكي على المعطيات، هي معيار النجاح.
وبينما تستمر المؤسسات الكلاسيكية في تقليدها الموروث، تصبح فئة الشباب قادرة على صناعة قفزة نوعية، لا تعتمد على الرأسمال الثقيل، بل على الذكاء، والجرأة، والتفكير المستقل. وفي الوقت الذي يحتاج فيه الكهل إلى فريقٍ إداري وأطنان من الملفات للقيام بخطوة واحدة، يستطيع الشاب أن يحقق نفس النتيجة من خلال تطبيق على هاتفه المحمول، في جزء من الثانية، وبقراءة عقلانية لمؤشرات السوق.
ليس الأمر نزاع أجيال، ولكنه اختلاف رؤى. فالكهل ظل سجين عصرٍ انتهى، يرى النجاح في تكديس السلع والمخازن، بينما الشاب يرى النجاح في خلق القيمة، في تحويل المعلومة إلى ربح، وفي الاستثمار في اللاّمادي: المعرفة، البيانات، والأفكار.
بل إن بعض الشباب صاروا اليوم يجمعون بين ريادة الأعمال والبحث العلمي، فصار المشروع الاقتصادي بالنسبة لهم امتدادًا لمشروع فكري – ثقافي – تحليلي، يمزج بين المعطى المحلي والعالمي، بين الفهم العميق للسوق والتحليل السياسي الدقيق.
هنا تبرز أهمية وجود هؤلاء في المراكز الحيوية، لأنهم ببساطة يحملون روح الزمن الجديد، ويتحدثون بلغة المستقبل. فإذا كانت المؤسسات تدار اليوم بعقليات الأمس، فلا عجب أن تتخلف، وتُهزم، وتصبح عبئًا على الدولة بدل أن تكون رافعة لها.
من ناحية أخرى، فإن التحول العالمي الذي يعرفه الاقتصاد لم يعد يقبل بالجمود. الآلات صارت تفكر، والذكاء الاصطناعي بات يقدّم قراءات وتقارير وقرارات في أجزاء من الثانية. ومع هذا، فإن الشاب يظلّ متقدمًا بشيء واحد لا تستطيع الآلة تقليده بسهولة: الشعور. هذا الشعور هو جوهر الإبداع والتميّز، وهو ما يجعل الاستثمار البشري في الشباب ضرورة وطنية لا ترفًا سياسيًا.
غير أن هذه الفرصة الذهبية التي يقدّمها الشباب للعالم الثالث – ومنها الجزائر – قد لا تتكرّر. فبينما تتجه الدول المتقدمة إلى استبدال البشر بالروبوتات والأنظمة الذكية، فإن العالم الثالث ما يزال يمتلك ثروة بشرية شابة يمكنها، إن وُضعت في المكان المناسب، أن تصنع المعجزات، وتقلّص الفجوة الرقمية، والمعرفية، والاقتصادية بيننا وبينهم.
غير أن ذلك لا يكون إلا بتفكيك منظومة الكهلنة، والاعتراف أن الخبرة التي كانت تُعتمد سابقًا كمعيار، يجب أن تُراجع. فليس كل من خدم لثلاثين سنة يصلح لقيادة المرحلة الجديدة، كما أنه ليس كل شاب يمكنه الصعود بدون كفاءة. المطلوب اليوم هو إعادة تعريف الجدارة، لتكون قائمة على المهارة، الفعالية، والقدرة على الابتكار.
ولعل أهم ما يجب أن ننتبه له، هو أن الرؤية الاقتصادية ليست أرقامًا فقط، بل فلسفة حياة. أن نؤمن بأن الاقتصاد لا يُدار بالكسل، ولا بالبيروقراطية، بل بالعقل، والإرادة، والانفتاح. أن نفهم أن الشاب الذي يتداول على الشاشة، ويحلل الصراعات العالمية، ويتأمل في التقارير الاقتصادية، هو نفسه من يجب أن يُستدعى لصياغة السياسات الاقتصادية، لأنه يعرف نبض العالم.
وهكذا، يكون الاستثمار في الشباب، ليس مجرد توظيف عابر، بل تحوّل جذري في طريقة بناء الدولة، وإدارة ثرواتها، وتحقيق أمنها الاقتصادي والسياسي. حين نراهن على هؤلاء، نحن لا نراهن على فرد، بل على عقل جماعي جديد، على جيلٍ يحمل مفاتيح الغد.
ولهذا، فإن مستقبل الجزائر – كما أراه – يمر حتمًا عبر هذه الرؤية: تفكيك منظومة الكهلنة، ضخ الدماء الشابة في المراكز الحيوية، اعتماد النماذج الاقتصادية الحديثة، وتكوين شباب لا يشتغل فقط، بل يفكر، يبتكر، يربط بين الأحداث، ويرى في الاقتصاد بابًا للكرامة والسيادة.
بهذه المقاربة، فقط، نستطيع أن نكسر التبعية، أن نتحرر من الجمود، وأن نُراوغ هذا المستقبل المحتوم، لا خوفًا منه، بل إيمانًا بأننا جزء منه، وفاعلون فيه، لا مجرّد تابعين لقرارات الآخرين.
في النهاية، إن أزمة الجزائر الاقتصادية ليست في المال، بل في العقول. وحين نحرر هذه العقول من ثقل الماضي، ونعطيها فرصة لتشتغل بمنطق اليوم، حينها فقط نكون قد بدأنا رحلة النهوض الحقيقية.
الكاتب /لمين مساسط 

تعليقات

  1. تحليلٌ منطقي،وفهمٌ عميقٌ لواقع الاقتصاد الجزائري.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة