ثمن الوعي في زمن الرداءة: المثقف الجزائري بين التهميش والتشويه


 

ثمن الوعي في زمن الرداءة: المثقف الجزائري بين التهميش والتشويه

😶‍🌫️

في الجزائر، كما في غيرها من الدول التي تتأرجح بين الانفتاح والتقوقع، يظل المثقف الحقيقي عالقًا في منطقة رمادية بين الاعتراف والتجاهل، بين التقدير والتشويه، بين الاحتفاء والإقصاء. لكن ما يميز الحالة الجزائرية تحديدًا هو ذلك الإصرار العجيب على تهميش المثقف حين يمتلك وعيًا حقيقيًا. وكأن الوعي نفسه جريمة، والمعرفة ترف لا يُحتمل، والنقد خيانة يجب كتمها.
المثقف الجزائري لا يُقصى لأنه لا يملك ما يقول، بل يُقصى لأنه يملك الكثير ليقوله. يقرأ، ويفهم، ويحلل، ويعود إلى الأرشيفات، ويستخرج الحقائق من تحت الركام، ثم يضعها أمام الجميع دون رتوش. هذا الوعي، في نظر السلطة أو بعض النخب الانتهازية، خطر داهم، لأنه يُفسد الصورة المصطنعة التي بُنيت بعناية؛ صورة البلد المستقر، والمجتمع المتماسك، والمؤسسات الراسخة.
لكن الحقيقة التي يعرفها هذا المثقف هي أن الصورة هشة، وأن الخطاب الرسمي مليء بالثقوب، وأن ما يُبنى اليوم قد ينهار غدًا إذا لم يُدعّم بصدق معرفي وأخلاقي. ومع ذلك، فإن كل محاولة جادة لتفكيك المشهد تُقابل إما بالتجاهل، أو بتشويه النوايا، أو بفتح ملفات قضائية جاهزة.
فهل بات الوعي عبئًا؟ وهل أصبح الفكر الحر سلاحًا موجهًا ضد صاحبه؟
في الوقت الذي يتعرض فيه المثقف المتبصر للمضايقات، نجد في المقابل، من يُطلق عليهم "النخبة البديلة"، وهم في الغالب حملة شهادات عليا، ولكن دون أي شغف حقيقي بالبحث أو المعرفة. همهم الأول التموقع، والتقرب، والتملق من أجل منصب، أو سيارة رسمية، أو تسهيلات للسفر. هذه الفئة تُتقن فن التزلف، وتعرف من أين تؤكل الكتف، لكنها لا تملك أي مشروع فكري أو ثقافي يخدم البلد. والأسوأ من ذلك، أنها تُقدّم أحيانًا كـ"نموذج المثقف المتزن"، لأنها لا تُحدث ضجيجًا، ولا تثير قضايا، ولا تُشوش على النظام العام.
هنا يكمن الخطر الحقيقي: حين يتحول المثقف إلى أداة تجميل. حين يُطلب منه أن يكون "إطارًا" لا "مفكرًا"، وأن يكتب بلغة ناعمة تُطمئن الجميع، لا بلغة تطرح الأسئلة وتُربك السائد. حينها يتحول المثقف إلى ديكور رسمي، لا أكثر.
وما يضاعف من مرارة الوضع، هو أن الرداءة أصبحت تجد لها جمهورًا عريضًا. بات من السهل أن يُصبح صاحب مستوى ضعيف نجمًا في الفضاء العمومي، فقط لأنه يجيد التلاعب بالعواطف، أو يُضحك الناس، أو يُرضي جمهورًا يبحث عن السطح لا العمق. وهنا تبرز واحدة من أكبر مآسي اللحظة الثقافية في الجزائر: الانقلاب في موازين التأثير.
فبدل أن يُحتفى بالمفكرين والباحثين الجادين، نجد من يُهاجمهم فقط لأنهم "يعقدون الأمور"، أو لأنهم "يتكلمون بلغة لا تُفهم". ويصل الأمر إلى حد الاستهزاء بأسمائهم، والتشكيك في نواياهم، أو نبش حياتهم الخاصة. بينما يُصفق للمهرج، ويُعاد نشر تفاهاته، وتُفتح له الشاشات.
في مثل هذا المناخ، يشعر المثقف الحقيقي بالخذلان. لا فقط من المؤسسات، بل من المجتمع نفسه. وهذا ما يحوّل التجربة الثقافية من مشروع وطني إلى حرب نفسية مفتوحة. المثقف يجد نفسه محاصرًا من كل الجهات: ممن يريدون إخراسه، وممن لا يفهمونه، وممن يستفيدون من تهميشه.
وفي ظل هذا التراجع، يصبح الحديث عن ثورة فكرية أو نهضة ثقافية ضربًا من الحلم. فكيف تنهض أمة تُقصي خيرة عقولها؟ كيف تتطور مؤسساتها إذا كان من يُشير إلى خللها يُحاكم؟ كيف تُنتج معرفة حقيقية في ظل هذا الخوف، وهذه الرداءة، وهذا التواطؤ؟
لكن، رغم ذلك، لا تزال هناك شموع تُضيء في العتمة. لا تزال هناك أقلام تقاوم، تكتب رغم التضييق، وتقرأ رغم الإحباط، وتحلل رغم التجاهل. هذه الفئة من المثقفين تدرك أن الطريق طويل، وأن التغيير لا يأتي بين ليلة وضحاها، لكنها تؤمن بأن وظيفة المثقف ليست النجاح في السوق، بل الوفاء للفكر والحقيقة.
إن من أراد أن ينتقد عليه أن يقرأ أولًا، وأن يُتقن أدواته. النقد لا يعني الإساءة، بل الفهم العميق. وإذا أردت أن تُسائل ظاهرة أو شخصية أو مؤسسة، عليك أن تكون مثقفًا عشر مرات، لا فقط مرة واحدة. هذا يعني أن تقرأ، وتبحث، وتقارن، وتتحقق. لأن المثقف الحقيقي ليس من يردد الشعارات، بل من يُضيء العتمات.
السؤال الجوهري الآن هو: متى نُعيد الاعتبار للمثقف الحقيقي؟ متى يصبح المفكر ركيزة في بناء السياسات لا مجرد "خارج عن النص"؟ ومتى يفهم القارئ العادي أن فكره هو الآخر أداة مقاومة، وأن قراءته الواعية هي بداية لتحول كبير؟
لن يحدث هذا إلا حين نُطلق "ثورة وعي" حقيقية. ثورة تُعيد بناء العلاقة بين المثقف والمجتمع، وتُحيي ثقة الناس في الكلمة، وتُفكك شبكات التزلف والانتهازية. هذه الثورة ليست سياسية فقط، بل معرفية بالدرجة الأولى. تبدأ من المدرسة، وتُعزز في الجامعة، وتُصان في الإعلام، وتُحترم في مؤسسات الدولة.
وإلى أن يحدث ذلك، سيظل المثقف الحقيقي في الجزائر يعيش في منطقة رمادية، يكتب من الهامش، ويُسمع صوته في العتمة، لكنه لن يصمت. لأنه، ببساطة، يؤمن بأن الكلمة الحرة، حتى وإن وُئدت مؤقتًا، لا تموت. وأن الوعي، مهما كُتم، لا يختفي، بل يعود في لحظة ما، كفيضان من الأسئلة التي لا يُمكن تجاهلها.
الكاتب / لمين مساسط

تعليقات

المشاركات الشائعة