الإسلام بين المبادئ والممارسات: أزمة فقدان الهوية وانهيار القيم
في عالمٍ يشهد تحولاتٍ كبرى، يتنامى الانفصام بين التعاليم الدينية الإسلامية وبين الواقع الذي يعيشه المسلمون. هذه الفجوة ليست مجرد مسألة فردية، بل أزمة عميقة تُهدد مصداقية الدين ذاته في نظر أبنائه قبل غيرهم. عندما يتحول الإسلام من منهج حياة إلى موروث ثقافي متناقل، وعندما تصبح النصوص الدينية مجرد كلمات تُتلى دون أن تجد لها أثرًا في السلوك اليومي، فإن الأمر يستحق الوقوف عنده ودراسته بعناية.
إن جوهر الدين الإسلامي يقوم على الممارسة قبل التنظير، وعلى العمل قبل القول، ولكننا اليوم أمام مشهد مختلف تمامًا. المسلمون يتفاخرون بتراثهم الديني، لكن في حياتهم اليومية، تغيب الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام. في الأسواق، تُمارس المضاربة واحتكار السلع بلا مراعاة لمبدأ العدل. في الإدارات، يستشري الفساد والمحسوبية رغم أن الأمانة والعدل من أبرز القيم الإسلامية. في التعاملات الشخصية، تنتشر الأنانية والحقد والتنافس السلبي، رغم أن النصوص تدعو إلى الإيثار والتعاون.
هذا التناقض يظهر جليًا في المناسبات الدينية، حيث يُفترض أن تكون هذه الأوقات فرصة للعودة إلى القيم الحقيقية. في شهر رمضان، الذي يُفترض أن يكون شهر الصبر والتقوى، نجد الإسراف والتبذير وارتفاع الأسعار بشكلٍ جنوني، وكأن الصيام مناسبةً للاستهلاك وليس للعبادة. في الأعياد، ترتفع أسعار الأضاحي بطريقة تجعلها عبئًا ثقيلًا على الكثيرين، في حين أن الفكرة الأصلية كانت قائمةً على التقرب إلى الله وإطعام الفقراء. هذه المفارقات تطرح تساؤلًا خطيرًا: هل تحولت الشعائر إلى مجرد طقوس فارغة من مضمونها الأخلاقي؟
أكثر ما يُثير القلق هو انعكاس هذه التناقضات على صورة الإسلام عالميًا. عندما ينظر الغرب إلى المجتمعات المسلمة ويرى حجم الفساد، الظلم، وغياب العدالة، فإنه يجد تناقضًا بين الصورة التي يُروَّج لها عن الإسلام وبين الواقع المعيش. كيف يمكن إقناع العالم بأن الإسلام دين الرحمة والتسامح، في حين أن بعض المجتمعات المسلمة تمارس العنف والتطرف ضد بعضها البعض؟ كيف يمكن الدفاع عن مبادئ العدل، بينما يعاني الكثير من المسلمين من الاضطهاد داخل بلدانهم؟
القضية الفلسطينية مثالٌ واضحٌ على هذه الازدواجية. على مدى عقود، كانت فلسطين اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام المسلمين بمبادئهم. النصوص الدينية تدعو إلى نصرة المستضعفين، لكن ما يحدث على أرض الواقع يروي قصةً أخرى. رغم الخطابات الحماسية، نجد أن المواقف الفعلية تتراوح بين الصمت، التخاذل، وحتى التعاون مع العدو. المسلم الذي ينادي بالعدالة في خطبه، يوقع اتفاقياتٍ سرية تخدم مصالحه الشخصية. الدول التي تُعلن دعمها للقضية، تتفاوض سرًا على حلولٍ تُرضي القوى الكبرى. أين ذهبت القيم التي يدعو إليها الإسلام؟ أين هو التضامن الإسلامي الذي يتحدث عنه الجميع؟
ما يزيد من خطورة هذا الوضع هو أن غياب التطبيق العملي للقيم الإسلامية لا يُضعف فقط صورة الإسلام أمام الآخرين، بل يُساهم في انهيار الأخلاق داخل المجتمعات الإسلامية نفسها. عندما يُصبح الدين مجرد شعارات، فإن ذلك يفتح الباب أمام انتشار السلوكيات المناقضة له. نرى ذلك في التعاملات الاجتماعية، حيث تنتشر الغيبة، النفاق، والكراهية بين الأفراد. نراه في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتحول النقاشات إلى ساحةٍ للصراعات الشخصية والتشهير، في تناقضٍ تام مع تعاليم الإسلام حول احترام الآخرين. نراه في انهيار منظومة القيم داخل الأسرة، حيث تضعف الروابط العائلية ويزداد التفكك الأسري.
هذا الواقع يطرح تساؤلًا وجوديًا حول مستقبل الدين في حياة المسلمين. هل الإسلام اليوم مجرد إرث ثقافي يُتناقل دون أن يكون له تأثيرٌ حقيقي على السلوك؟ هل أصبح الدين جزءًا من الهوية الاجتماعية أكثر من كونه منهجًا للحياة؟ إذا استمر التعامل مع الإسلام على هذا النحو، فإننا أمام خطرٍ حقيقي، حيث تتحول القيم الدينية إلى مجرد تاريخٍ يُدرّس في الكتب، بدل أن تكون واقعًا يُمارَس.
ما يزيد الأمر سوءًا هو أن بعض المسلمين أنفسهم يستخدمون الدين لأغراضٍ مصلحية. يُوظَّف الدين في السياسة، فيُستخدم كأداةٍ للوصول إلى السلطة، لا كوسيلةٍ لتحقيق العدل. يُستغل الدين في التجارة، حيث تُسوق المنتجات والخدمات باسم "الحلال" دون أي مراعاة للأخلاق الحقيقية. حتى في العلاقات الاجتماعية، يُوظَّف الدين أحيانًا لتبرير الظلم والتعسف، بدل أن يكون مصدرًا للرحمة والمساواة.
إذا كنا نبحث عن حلٍّ لهذه الأزمة، فلا بد أن يبدأ التغيير من الفرد قبل أن يشمل المجتمع. الالتزام الحقيقي بالإسلام لا يكون فقط بالخطاب، بل بالسلوك. المسلم الذي يرفض الفساد في نفسه، سيكون قادرًا على مقاومته في مجتمعه. المسلم الذي يلتزم بالأمانة، سينقل هذه القيمة إلى من حوله. لا يمكن انتظار التغيير من الحكومات أو المؤسسات الدينية فقط، لأن التحول الحقيقي يبدأ من الأشخاص العاديين الذين يقررون أن يعيشوا الإسلام في حياتهم اليومية، لا أن يكتفوا بالكلام عنه.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يفقد الناس ثقتهم في قدرة الدين على إحداث تغيير إيجابي في حياتهم. عندما يرون أن المبادئ التي يُنادى بها لا تُطبّق، فإن ذلك يؤدي إلى حالةٍ من اللامبالاة، حيث يتحول الدين إلى مجرد إرثٍ ثقافي بلا روح. هذا الانفصال بين القيم والممارسات قد يكون مقدمةً لانهيارٍ أخلاقي أعمق، حيث تسود الفوضى، ويندثر مفهوم العدل، ويصبح المجتمع قائمًا على المصالح الفردية فقط.
التحدي الحقيقي اليوم ليس في الدفاع عن الإسلام أمام الآخرين، بل في استعادة روحه الحقيقية داخل المجتمعات المسلمة. إذا كان المسلمون يريدون أن يُنظر إليهم كأمةٍ ذات قيم، فعليهم أن يجسدوا هذه القيم في حياتهم، لا أن يكتفوا بالحديث عنها. الإسلام لا يحتاج إلى من يدافع عنه بالكلمات، بل يحتاج إلى من يطبّقه بالأفعال. عندها فقط، يمكن أن يكون للدين أثرٌ حقيقي في الواقع، ويمكن أن يعود إلى دوره كقوةٍ أخلاقية تُحدث تغييرًا إيجابيًا في حياة الأفراد والمجتمعات.
الكاتب /لمين مساسط 🇩🇿
تعليقات
إرسال تعليق